جائزة إحسان عباس

فخري صالح

بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل الناقد والباحث الفلسطيني الكبير د. إحسان عباس أعلن ملتقى فلسطين الثقافي قبل أيام، وفي مؤتمر صحفي برابطة الكتاب الأردنيين، عن إشهار جائزة إحسان عباس للإبداع والثقافة التي يُفترض أن تسدّ فراغاً خلّفه التوقّف عن منح جوائز دولة فلسطين الثقافية منذ سنوات. وعلى الرغم من أن الجائزة سوف تغطي كلَّ عام الجوانبَ والحقول الثقافية التي رادها عمل إحسان عباس على مدار إنجازه المديد المتواصل، فإنها تظل لفتةً شديدة الأهمّية من جانب ملتقى فلسطين الثقافي، ورئيسه الصديق فتحي البس. ففي ظلّ تراجع الاهتمام بالثقافة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلّين، وتضاؤل دور وزارة الثقافة الفلسطينية، لكي لا نقول اضمحلاله، يبدو أن على المؤسسات الأهليّة والمتحمّسين من المثقفين ورجال الأعمال الفلسطينيين، إعادة الزخم للحالة الثقافية الفلسطينية التي فقدت اندفاعتها لأسباب عديدة لا مجال للحديث عنها في هذا السياق.
ما يهمّنا في الحقيقة هو التذكير بما أنجزه واحدٌ من المثقفين والنقاد العرب، والفلسطينيين الكبار، وإبقاء اسمه في دائرة الضوء في زمن خؤون يهمل الغائبين مهما كان ذكرهم عالياً في الحياة، فإذا بهم يُنسون عند الممات. صحيحٌ أن ما أنجزه إحسان عباس من نقد  وتحقيق للتراث وترجمة، من بين أشياء اخرى، كافٍ لتخليد ذكره، لكن ذلك بين المتخصصين والدارسين وعشّاق الأدب والثقافة العربيين الذين لا شكّ يقدّرون الرجل حقّ قدره ويعرفون حجم الخدمات الجليلة التي قدّمها للأدب العربي، قديمه وحديثه.
كان إحسان عبّاس فريقَ عمل في رجل واحد. كان ناقداً أدبياً بارزاً، ومحققاً بارعاً لكتب التراث، ومترجماً فذّاً عن اللغة الإنجليزية، ومؤرّخاً، وشاعراً، وأكاديميّاً وأستاذاً جامعيًاً يشار إليه بالبنان. وقد حقق، رغم موسوعيّته واتساع حقل اهتماماته، نجاحاً كبيراً في كلّ عملٍ راده، وظلّت كتاباته تثير الأسئلة والاهتمام والخيال. أتذكّر أنني سألته عن هذا العدد الهائل من الكتب التي ألّفها أو ترجمها أو حققها، وهي تملأ رفوفاً بكاملها، متعجّباً من قدرته على العثور على الوقت الكافي لعمل ذلك كله، رغم كونه أستاذاً جامعيّاً يعلّم الطلبة ويصحح أوراقهم ويهتمّ بإرشادهم. فقال لي إنه تعوّد أن يصحو كلّ يوم في حوالي الرابعة صباحاً ويبدأ العمل، وفي العاشرة تقريباً يذهب إلى الجامعة للتدريس، ثمّ يعود ليعمل في بيته. لم يكن منشغلاً بأيّ شيء يتجاوز حقل الكتابة والعمل الثقافي، وقد ضحّى بالحياة الاجتماعية ليكون ناسكاً في محراب العلم والمعرفة.
من هنا يبدو لي أن ميراث إحسان عباس، الأدبي والثقافي الضخم، بحاجة إلى قراءات عديدة جديدة للتعرّف إلى ما قدّمته قراءته للشعر العربي المعاصر، وللتراث، وفن كتابة السيرة، وفن الترجمة، وللدراسات الأندلسيّة، ولكتابة التاريخ، وللتأثيرات العميقة التي أحدثتها قراءته وترجمته للفكر النقديّ الغربيّ في النصف الأوّل من القرن العشرين. لقد كان إحسان عباس، كما أظنّ، يعمل في إطار تصوّر شبكيّ من التأثيرات الثقافية، مقرّباً التراث من العالم الحديث، وحاملاً أدوات الفحص النقديّ والبحثيّ الخاصّة بالعالم الحديث إلى التراث. كان عبّاس ابن التراث وابن العصر معاً، وهو يقدّم نموذجاً ملهماً لما ينبغي أن يكون عليه المثقفُ العربي المعاصر في تقاطع تأثيرات الماضي والراهن، فلا قطيعة مع الماضي ولا إدارةَ ظهرٍ إلى الماضي. ونرجو أن تحقق جائزته دورها الحقيقي في الواقع الثقافي، والنقدي، الراكد في الوطن العربيّ عامّةً، وفلسطين خاصّة.

جريدة الدستور الاردنية

 الأحد، 20 أكتوبر/تشرين الأول، 2013