شمعدان ومكتبة

د. أحمد جميل عزم

هلل الإعلام الإسرائيلي في الأيام الماضية لما وصفه أنّه "اكتشاف" 36 مشغولة ذهبية، تعود إلى القرن السابع الميلادي، قيل إنّها تحمل رموزا يهودية. وقد عُثر على المشغولات جنوب مدينة القدس، خارج الأسوار. بطبيعة الحال يحتاج ما قيل عن الموجودات،إلى تمحيص علمي عميق، ولكن حتى الافتراض جدلا صحة الحديث، فإنّ هذا يعزز نظريات علمية غربية قالت إنّه إذا ثبت وجود يهودي تاريخي في المنطقة فإنّ ذلك سيكون في جنوب المدينة الحالية، خارج الأسوار، ويدحض مقولة وجود الهيكل مكان المسجد الأقصى.

هذا الحفر المسيّس الغامض في أعماق التاريخ القديم الغامض، يصاحبه طمس التاريخ الحديث، وهدم البيوت وطرد أهلها،ومحو قصصهم.

تثير قصص المذكرات الشخصية حنينا لزمن ماض جميل، ولكن من غير الشائع أو السهل أن تكتب مذكراتأجيالٍ من أجدادك ورحلاتهم ومغامراتهم. ممن كتب مثل هذه القصص،عاصم الخالدي، الذي استضافه ملتقى فلسطين الثقافي ودار الشروق قبل أيام في رام الله، لإطلاق كتابه "ذكريات من باب السلسلة".

ولد الكاتب في ثلاثينيات القرن الفائت، في بيت مملوكيمن القرن الثالث عشر، هو أول ما يصادف الخارج من باب الحرم الشريف، بُني فوق قنطرة يعبر من تحتها المارة. والكاتب حفيد القاضي محمود الخالدي، الذي سكن البيت نفسه في القرن السابع عشر.

أن تكون من عائلة علم وكتابة يعني أن تجد الكثير من الملفات والوثائق والمذكرات غير المنشورة،تُشكّل مَعيناً للكتابة. ولكن أن تكون من عائلة فلسطينية فذلك يعني أنّ هذا الكنز الوثائقي موزع في أصقاع الشتات، وأنّ أجزاءً منه ربما ضاعت أثناء الرحيل. بحث عاصم الخالدي في كل هذا، وجمع روايات شفوية، وقرأ كتب التاريخ، ليكتب كتابه.

افتتحت المكتبة الخالدية في القدس، عام 1900، لتكون مكتبة عامة، وقصتها من أثرى قصص الكتاب. تضم المكتبة مخطوطات جمعها أبناء العائلة، يزيد عددها عن 1200 مخطوطة. ولك أن تتخيلافتتاح مكتبة عامة الآن، سيُدعى مسؤولون رسميون، كرئيس بلدية ووزير، ولكننا نرى في صورة افتتاح "الخالدية"، الشيخ طاهر الجزائري ناظر المكتبة العمومية الدمشقية، والصحافي محمد الحبال صاحب جريد ثمرات الفنون البيروتية، ووجهاء عائلة الخالدي، لنعرفبذلك طبيعة تشابك العلاقات في سورية الطبيعية حينها. لفتني وأنا أقرأ كتابالرشيد الخالدي، الأستاذ في جامعة كولومبيا، قبل أعوام، أنّه يستعين بأرشيف صحف ومواد موجودة في المكتبة نفسها. ومبنى المكتبة وثيقة معمارية بحد ذاته،فهو في الأصل مقبرة مملوكية ولا زالت أجزاء منها قائمة بنقوشها التي تتضمن تواريخ توثق أحداثا بعينها.

مادة الكتاب قصة جميلة، فبعض الأوراق هي ما تركته حسب خانم، ابنة يوسف الخالدي المتوفى عام 1917، احتفظت بأوراق أخيها ومن ذلك شهادات المدرسة لابنه الذي أتم دراسته في بيروت عام 1897. وبعض المادة من مذكّرات غير منشورة لحسين فخري الخالدي، آخر رئيس بلدية منتخب للقدس، تحتفظ بها ابنته ليلى الخالدي. من السجلات والسندات المالية ووثائق المواريث عرف المؤلف أنّه في عام 1828 مثلا كانت العملة المستخدمة القرش الأسدي، وعام 1848 كانت الفضة المصرية. استنتج من رسالة تاجر من إزمير عام 1891 إلى جده أنّ الأخير سافر إلى روما واسطنبول. ومن الوثائق عرف أنّ محي الدين الخالدي كان لديه شركة شحن وسياحة تنقل البضائع والسياح من يافا إلى القدس، وأنّ الخيل المستخدم في الشركة، نهاية القرن التاسع عشر، عليه سروج بعضها مخصص للرجال وبعضها للنساء، وكان السائقون يرتدون زيا خاصا (يونيفورم) وأنّ محي الدين سافر إلى أوديسة على البحر الأسود.

حكى المؤلف بتأثرعن عمر الأنصاري ابن أمين المكتبة الخالدية، وعارف الترجمان، أصدقاء والده،وكيف تظاهروا عام 1917 ضد وعد بلفور، وذهبوا عام 1933 للمشاركة في مظاهرة في يافا، وعاد عمر مُستشهداً. 

يكاد كل ما في القدس يشكّل قصة فريدة؛فالمقاهي لها تاريخ وقصص، وكعك السمسم له قصة، وربما كل دكان فيه ما يستحق الكتابة، والتوثيق. وكل ذلك في نظر الإسرائيليين يستحق الهدم، لعلهم يجدون تحته شيئاً يخدم روايتهم للتاريخ أو يطمس الرواية الأخرى.

·         عن كتاب ذكريات من باب السلسلة